|
عن القيامة والآخرة
كتاب السراج وهو تفسير على المشناة للحاخام موسى بن ميمون القرطبي
(Transcription, editing and footnotes: Rabbi Sjimon den Hollander
للحصول على تنسيق قابل للطباعة ، انظر أدناه
المِشناة، جزء سنهدرين
باب ١٠، مشناة ١ المشناة: كلّ بني إسرائيل إنّ لهم حِصّة في الآخرة كما قيل ﴿وَشَعْبُكَ كُلـُّهُمْ أَبْرَارٌ إِلٰى ٱلأَبَدِ يَرِثـُونَ ٱلأَرْضَ﴾[1]. وهؤلاء هم الذين ليست لهم حصّة في العالم الآتي فمَن كذّب قيامة الأموات ومَن أنكر أنّ التوراة مِن السماء والكافر. وقال الحبر عقيبا: حتـّى مَن قرأ الكتب الغير مقبولة، ومَن همس على جُرحٍ مُنشِدًا الآية ﴿وَكـُلَّ مَرَض ٍ ٱلـَّذِي وَضَعْـتُهُ عَلـٰى ٱلْمِصْرِيِّينَ لـَنْ أضَعَ عَلَيْكَ إِنِّي الله شَافِيكَ﴾[2]. وقال أبو شاؤول: حتـّى مَن تلفـّظ بـِٱسمِ اللهِ حرفـيًّا (يعني الاسم الأقدس الغير ملفوظ)٠
[1] يشعياه، باب ٦٠، آبة ٢١
[2] التوراة، سفر الخروج، فصل ١٥، آية ٢٦ كتاب السراج رأيتُ بأن أتكلم هنا في أصول كثيرة من الاعتقادات جليلة القدر جدّا. إعلمْ أنّ أهل الشريعة اختلفت آراؤهم في السعادة التي ينالها الإنسان بامتثال هذه الشرائع التي شرعنا الله بها على يد سيّدنا موسى وفي الشقاوة التي تلحِقنا عند التعدّي عليها اختلافـًا كثيرًا جدّا على حسب إختلاف الآراء، وتشوّشت في ذلك الأذهان تشوّشـًا كثيرًا، حتى أنـّك يكاد لا تجد بوجه ما شخصًا صفا له موضوع باب المشناة هذا. نعم ولا تجد في هذا الموضوع كلامًا مُشَوَّشًا فقط٠
فطائفة تعتقد أنّ السعادة إنما هي جَـنّة عدن وأنّه موضع يؤكل فيه ويشرب دون شقاء الجسم ودون تعب، وأن يكون فيه بيوت من أحجار عالية ومنابر حرير، وأنهار تجري من خمر وأدهان طيّـبة، وكثير الآراء من هذا النوع، وأنّ الشقاوة هي جهنـّم، وأنّها موضِعُ نار ٍ متأجِّجة تَحرِق فيها الجثث ويتعذب الناس فيها أنواعًا من العذاب يطول شَرحها. وتدلـِّـل هذه الطائفة على هذا الاعتقاد بأقوالٍ كثيرةٍ من أقوال حكماء التلمود عليهم السلام تطابق والله العظيم ظواهرُ كلّ هذه الأقوال أو أكثرُها دعواهم٠
وطائفة ثانية تعتقد وتظنّ أنّ السعادة المرتجاة إنّما هي أيّام المسيح لتنكشف قريبًا، أنّ ذلك الزمان يكون الناس كلـّهم ملوك دائمين، وتعظم جثثهم، ويعمرون في الأرض كلـّها إلى الأبد، وذلك المسيح بزعمهم يعيش ما دام البارئ جلّ ثناؤه، وأنّ في ذلك الزمان تـنبت الأرض ثيابًا منسوجة وخبزًا مخبوزًا ومستحيلات كثيرة مثل هذه. والشقاوة هي أنّ لا يكون الإنسان في ذلك الزمان ولا يستحقّ لمشاهدته، ويستدلـّـون أيضًا على ذلك بأقوال كثيرة موجودة لحكماء التلمود وبنصوص من الكتب النبويّة، توافق كلّ هذه الأقوال أو بعضُها دعواهم٠
وطائفة ثالثة تَزعُم أنّ السعادة المرتجاة هي إحياء الموتى وذلك أن يعيش الإنسان بعد موته ويرجع مع أهله وقرابته، ويأكل ويشرب ولا يموت أبعد ذلك. والشقاوة أن لا يعيش، ويستدلـّون أيضًا على هذا بأقوال للحاخامات وببعض آيات في النصوص تطابق هذا الدعوى٠
وطائفة رابعة تزعُم أنّ السعادة التي ننالها بامتـثال الشرائع هي راحة الجسم والأمال الدنياوية في هذه الدنيا، مثـل خصب البلاد وكثرة المال والأولاد وطول العمر وصحّة الجسم والأمان وكَوْن المُلك فينا، وكَوْننا مُتَسَلـِّطِين على مَن عادانا، وأنّ الشقاوة التي تلحَقنا إذا خالفنا أحكام الله هي عكس هذه الأحوال على ما نحن بسبيله في زماننا هذا، زمان المنفى. ويستدلـّـون بزَعمهم بجميع نصوص التوراة من البركات واللعنات[3] وغيرها، وبجملة الأخبار المُدَوَّنة في الكتب النبويّة٠
[3] المتعلّقة بطاعة أحكام التوراة وبتعديها
وطائفة خامسة وهي الأكثر تجمع بين هذه الاشياء كلها وتقول أنّ الترجَّى هو أن يجيء المسيح ويحيّي الموتى ويدخلون جنّة عدن. وثمّ يأكلون، ويشربون ويصحّون ما دامت السماوات والأرض٠
وأمّا هذه النكتة الغريبة أعني لآخرة فقليلا أن تجد بوجه ما مَن تمرّ له ببالٍ أو يفكر فيها أو يتّخذ هذا الأصل أو يسأل عن هذه الإسمية على أيّ شيء تقع، وهل هي الغاية أو إحدى هذه الآراء المتقدمة هي الغاية، ويفرق بين الغاية وبين السبب المؤدّي إلى الغاية، ولا تجد بوجه ما مَن يسأل في هذا أو يتكلم فيه، وإنّما يسأل الناس كلهم العامّ والخاصّ كيف يقوم الأموات عُراة أو متردّيين، وهل بتلك الثياب بعينها التي يدفن فيها يقوم برقشها ونقشها وحسن خياطتها أو بسترة تستره فقط، وإذا جاء المسيح هل يسوي بين الغني والفقير أو يكون في أيّامه القوّي والضعيف، وكثير من هذه المسائل مع الأحيان٠
وأنت يا هذا إفهم عنّي هذا المثال وحينيذٍ تجعل غرضك لتسمع كلامي في هذا كله. تصوّر أنّ طفلا صغيرَ السنّ أدخل عند مؤدّب ليعلـّـمَه التوراة وذلك خير عظيم له لما يحصل له من الكمال، غير أنّه لصغر سنّه وضعف عقله لا يفهم مقدار ذلك الخير ولا ما يؤدّيه اليه من الكمال، فالضرورة تدفع المعلم الذي هو أكمل منه أن يحرّكه على القراءة بالأمر المحبوب عنده لصغر سنّه، فيقول له إقرأ وأعطيك جوزًا أو تينـًا او ندفعأدفع لك قطعة سكر، فيقرأ ويجتهد ليس لنفس القراءة لأنّه لا يعلم لذلك قـَدْرًا، إلا لينال ذلك الطعام، وأكل ذلك الطعام عنده أفضل من القراءة وأكثر خير بلا شكّ، ولذلك يحسب القراءة شقاءً وتعب يعتبه لينال بذلك التعب تلك الغاية المحبوبة وهي حَبّة جوز أو قطعة سكّر٠
فإذا كبُر وتمكّن عقله وضعف عنده ذلك الشيء الذي كان يؤثره قبل ورجع يؤثر غير ذلك شَهَى أيضًا بذلك الشيء الأثير عنده، فيقول له معلمه إقرأ وأشتري لك أحذية حسنة أو ثوبًا على صفة كذا، فيجتهد أيضًا حينئذٍ لا لنفس القراءة بل لذلك اللباس، وذلك الثوب عنده أفضل من العلم وهو غاية القراءة، فإذا صار أكمل عقل وضعف عنده هذا القدر أيضًا طمع بما هو أكثر من هذا، فيقول له معلـّـمه إحفظ هذه السورة أو هذا الباب وأدفع لك دينارًا أو دينارَيْن، فيقرأ أيضًا ويجتهد ليأخذ ذلك المال، وأخذ المال عنده حينئذٍ أشرف من القراءة، أنّ غاية القراءة عنده حينئذٍ الوعد بالذهب الذي رَجَى أحذَهُ. فإذا صار أكثر تمييز وضعف أيضًا عنده هذا القدر ورأى أنّ ذلك قـَدَرٌ خسيسٌ طمِع بما هو أكثر من ذلك. ويقول له إقرأ لِتَصير حاخامًا وقاضيًا ويعظمك الناس ويقفون أمامك ويمتثلون أوامرك ويعظِم ٱسمك في حياتك وبعد مماتك مثـل فلان وفلان فيقرأ ويجتهد لينال هذه الرتبة، وتكون الغاية عنده تعظيم الناس وإجلالهم له وثـناؤهم عليه، وهذا كله مذموم، وإنّما يلتجي لذلك لضعف عقل الشخص الذي يجعل غاية العلم شيئًا آخر غير العلم٠
أخيرًا يُدرك فيقول لماذا أتعلــَّـم هذا العلم إلا لأنال به التبديد والإنحراف عن الحقيقة، وهذا هو عند حكماء التلمود (ما من أجل غير نفسها)، أيْ أنّه يمتـثـل الشرائع ويعملها ويقرأ ويجتهد لا لذلك الشيء في نفسه بل لشيء آخر. ونهونا الحاخامات عليهم السلام عن هذا وقالوا[4] لا تفعلها (أي كلمات التوراة) تاجًا لتتكبّر بها ولا مجرفة لتحفر بها، يشيرون إلى ما بيّنتُ لك أنّه لا يجعل غاية العلم لا تعظيم الناس له ولا اكتساب المال ولا يتخذ دين الله معيشة، ولا تكون عنده غاية العلم إلا علمه فقط. وكذلك ليس غاية الحقّ إلا أن يعلم أنّه حقّ، والشرائع حقّ فغايتها إمتثالها. ولا يجوز للإنسان الكامل أن يقول إن عملت هذه الفضائل واجتـنبت هذه القبائح التي نها الله عنها بأيّ شيء أكسِب، لأنّ ذلك مِثـل قول الصبي: إذا قرأت أيّ شيء ُيدفع لي فيقال له الأمر الفلاني، لأنـّا إذا رأينا ضعف عقله الذي لم يفهم هذا القدر وطلب للغاية غاية نجاوبه على قدر جهله ﴿جاوب الجاهل حسب حُمقه﴾[5]، وقد نهانا حكماء التلمود عن هذا أيضًا أعني أن يجعل الإنسان غاية عبادته وإمتثاله للشرائع أمرًا مِن الأمور، وهو قول الفاضل الكامل المدرِك الحقائق أنطيغونوس السوخيّ :[6] لا تكونوا كالعبيد الخادمين سيّدهم لكي يلقوا الثواب بل كونوا كالعبيد الخادمين سيّدهم لكي لا يلقوا الثواب، وإنّما أرادوا بذلك أن يعتقد الحقّ لنفس الحقّ، وهذا هو المعنى الذي يعبّرون عنه بالعابد من الحبّ، وقالوا عليهم السّلام ﴿قي وصاياه يرغب جدّا﴾[7] قال الحبر العازار[8]: إرغب في وصاياه ولا في ثواب وصاياه. وما أعظم هذا الدليل وما أبيّـنه فإنّه دليل واضح على ما تقدّم لنا مِن القول، وأعظم من هذا قولهم في نصّ السِفري[9]،: فلا تقول إنّي أدرس التوراة لكي أكون غنيًّا أو لكي أسمّي حبرًا أو لكي ألقي الثواب في الدنيا فقال التوراة ﴿ لتـُحِبّوا الله﴾ فكلّ ما تفعـله فلا تفعـلـْهُ إلا من الحبّ[10]٠
[4] المشناة، جزء الآباء، الباب ٤، مشناة ٧
[5] أمثال سليمٰن، باب ٢٦، آبة ٥ [6] أنطيغونوس السوخيّ في المِشناة، جزء الآباء، باب ١، مشناة ٣ [7] الزبور، سورة ١١٢، آية ١ [8] التلموذ، جزء الوثنيّة، صفحة ١٩.أ [9] كتاب من كتب الفقه اليهودي [10] التوراة، سفر التثنية، فصل ۱۱، آية ۱۳: ﴿لتحبّوا الله﴾٠ فقد تبـيّنَ هذا المعنى وصحَّ أنّه غرض الشرع وقاعدة اعتقاد حكماء التلمود، ولا يتعامى عنه إلا جاهل غبي قدِ ٱئتـلفته وَسْوَسَة الأفكار السخيفة والتخـيُّلات الناقصة، وهذه هي درجة أبينا إبراهيم عليه السلام أنّه كان عابدًا من الحبّ، ونحو هذا الطريق يلزم النزوع٠
وفقـًا لِـعِلم حكماء التلمود عليهم السّلام أنّ هذا المعنى عويص جدًّا وما كلّ أحد يدركه، وإن أدركه فليس يوافقه من أوّل مرّة ولا يراه اعتقادًا صحيحًا، لأنّ الإنسان لا يفعل أفعالا إلا لينال بها نفعًا أو يدفع مضرّة، أو يكون فعله ذلك عبثـًا، فكيف يقال للمتشرّع إفعلْ هذه الأفعال ولا تفعلـْها لا لِخوفٍ مِن عـقاب الله ولا لترجّي ثوابه، هذا صعب جدًّا، لأنّ ليس كلّ الناس يدركون الحقائق ويكونون مثـل أبينا إبراهيم عليه السلام، فأباحوا للجمهور أن يُقرّوا على اعتقادهم من فِعل الحسنات لترجّي الثواب، واجتـناب السيّات خوفَ العقاب، ويحضّون على ذلك وتـُقَوّي عزائمهم فيه، حتى يُدرِك الإدراك فيعرف الحقّ والوجه الأكمل ما هو، كمثـل ما نفعل بالصبي عند تعليم على ما مثـلنا، ونقدوا على نطيغونوس السوخيّ في تصريحه في الجمهور بما صرح، وقالوا في ذلك (يا حاخامات، حاسبوا على كلامكم)[11] على ما سنبين في جزء الآباء[12]، ولا هم الجمهور خاسرون مرّة واحدة في كونهم يمتـثلون الشريعة لخوف العقاب وترجّي الثواب لكنّهم غير كاملين، وإنّما يستحبّ لهم ذلك لتحصل لهم مَلـَكَة ورياضة في امتثال الشريعة وينتقلون إلى الحقّ ويصيرون العبيد من الحبّ، وهو قولهم عليهم السلام (فليعمل الانسان دائمًا بالتوراة - بدراستها وبفعل أحكامها - وحتّى من أجل غبر نفسها لأنّ من داخل - العبادة التي - من أجل غير نفسها سيأتي إلى (العبادة التي) من أجل نفسها)[13]٠ وممّا يجب أن تعلمه أنّ كلام الحاخامات عليهم السلام انقسم الناس إلى ثـلاث فرق٠
[11] المشناة، جزء الآباء، باب١، مشناة ١١
[12] جزء من أجزاء المشناة [13] التلمود البابلي، جزء سوطاة، صفحة ٢، أ الفرقة الأولى وهي أكثر مَن رأيتـُهُ ومَن رأيتُ تواليفه ومَن سمعتُ به. تحمِله على ظاهر كلام الحاخامات ولا تأوّله بوجه، وتصير عند هذه الفرقة الممتـنعات كلـّها واجبة الوجود يعني من القواعد التي ليست لها أسباب أو تفاسير معقولة. وإنّما فعلوا ذلك لجهلهم بالعلوم وبُعدهم من المعارف. وليس هم من الكمال مِن حيث ينتبهون من تِلقاء أنفسهم ولا وجدوا مُـنبّهًا ينبِّههم وهم يَرَوْنَ أن لم ُيريدوا االحاخامات بجميع أقوالهم المحكمة إلا ما فهموا هم منها وإنّها على ظواهرها، وإن كانت ظواهر بعض كلامهم من الشناعة في حيز ما، لو وصف حكماء التلمود على ظاهر كلامهم، فوصفوه في هذا الشكل للعوامّ غير المتعلمين الذين لا يستطيعون فهم المفاهيم المتقدمة. ناهيك عن خواصّهم لفيبهتون اعتبارًا لهذه الفرقة وقالوا كيف يكون في الدنيا شخص يتخيّل هذا ويراه رأيًا صحيحًا ناهيك عن استحسانه٠ وهذه الطائفة المسكينة تـُـرثِي لجهلها لأنّها عظـّـمت الحاخامات بزعمها وهي قـد أحَطـَّـتهم غاية الإحطاط وهي لا تشعُر، وإن كان لـَعَمْرُ الله هذه الطائفة تذهب بمحاسن الدين وتظلم بهجته وتجعل دين الله في عكس ما أراد به تعالى، لأنّ الله يقول في حكمة الوحي (الذين يسمعون كلّ هذه الفرائض)[14]، وهذه الطائفة تركز على ظواهر كلام حكماء التلمود ما إذا سَمِعَته الملل قالوا (إنّ هذا الشعب القليل مجرّد قوم أحمق وسخيف). وأكثر ما يفعل هؤلاء الخطباء الذين يفهّمون الناس ما لم يفهموه هم، فيا ليتهم إذ لا يفهمون لو سكتوا. ﴿ليتكم تصمتون صمتًا كان ذلك لكم حكمة﴾[15]، أو كان يقولون ما نعلم ما أراد الحاخامات بهذا الكلام ولا كيف يتفسّر، بل يزعُمون فهمَهُ ويستخدمون نفوذهم لِتفهيم الناس ما تفهّموا هم بأنفسهم لا ما قال الحاخامات، ويُعلِنون على رؤوس الجمهور بالخطب حول جزء البركات[16] أو حول باب الحِصّة[17] وغيرهما على ظواهرها حرفـًا بحرف٠
[14]
من الآية: ﴿فاحفظوا واعملوا لانّ ذلك حكمتكم وفطنتكم أمام أعين الشعوب الذين يسمعون كل هذه الفرائض فيقولون إنّ هذا الشعب العظيم إنما هو شعب حكيم وفطن﴾ (التوراة، سفر التثـنية، فصل ٤، آية ٢) [15] كتاب أيّوب، سورة ١٣ ، آية ٥ [16] جزء من أجزاء التلمود [17] باب المشناة المتفسّر هنا والطائفة الثانية كثيرة أيضًا وهم الذين رأوا كلام حكماء التلمود أو سمِعوه فحملوه على ظاهره وزعموا أن ما أرادوا الحاخامات بذلك غير ما دلّ عليه ظاهر الكلام، فأقبلوا على تسخيفه وتقبيحه وتشنيع ما ليس بشنيع، (وسخِروا بكلام الحاخامات)[18] مع الأحيان، ويزعمون أنّهم أعقل منهم وأذكى ذهن وإنّهم عليهم السلام منخدعين ناقصي الرأي جاهلين بجملة الوجود حتّى لم يُدْرِكوا شيئـًا بوجه٠
وأكثر مَن يقع في هذا الاعتقاد مُدَّعيي الطبّ، والهاذيين بقرارات النجوم، لأنّهم بزعمهم حُذّاق حُكماء فلاسفة، وما أبعدهم من الإنسانية عند الفلاسفة على الحقيقة وهم أجهل من الفرقة الأولى وأكثر غَبَاوة، وهي طائفة ملعونة لِهُفـاتِها لأشخاص عظماء القدر قد بان علمهم عند العلماء. ولو أنّهم راضوا أنفسَهم في العلوم حتى يعلمون كيف ينبغي أن يترتـِّـب الكلام في الإلاهيات وشِبْهها من الأمور عند الجمهور وعند الخَواصّ، ويُحْكِمون الجزء العملي من الفلسفة لـَـبان لهم هل الحاخامات علماء أم لا، وكان ينفهم لهم معاني كلامهم٠ [18] التلمود البابلي، جزء عروبين، صفحة ٢۱،ب
والطائفة الثالثة وهي لـَعَمْرُ اللهِ قليلة جدًّا حتّى لا يقال لها طائفة إلا كما يقال للشمس نوع، وهم الأقوام الذين تَقرَّرَ عندهم عظم حكماء التلمود وجودة أفكارهم بما وجد في طيّ كلامهم كلمات تدُلّ على معاني صحيحة جدًّا، وإن كانت قليلة ومفترقة في مواضع من مُدوَّناتهم، لكنّها دَلـَّتْ على كمالهم وإدراكهم الحقائق، وتقدّر أيضًا عندهم امتـناع الممتـنِع ووجوب الواجب، فعلموا أنّهم عليهم السلام لا يتكلمون في مُحال، فتيقّـنوا أنّ كلامهم له ظاهر وباطن، وأنّه كلّ ما يقولون من الأشياء الغير ممكنة إنّما كلامهم فيها على سبيل اللـُـغز والمثـل، وهكذا شأن الحكماء الكبار، ولهذا صدّر كتابَهُ رئـيسُ الحكماء وقال ﴿لتفهيم المثل واللغز كلام الحكماء وغوامضهم﴾[19]، وقد علم من عرف اللغة أنّ غامضة هي الكلام الذي غَرَضُهُ في باطنه لا في ظاهره، وكما قال ﴿لأحاجـِيَـنــَّـكم أُحْجـِيّة﴾ والخ[20]، لأنّ كلام أهل العلم كلهم في الأمور الرفيعة التي هي الغاية إنّما هو لغز ومثـل، وكيف يُستـنكَـر يا قوم تأليفهم العلم على طريق المثـل والتشبيه بأمور خسيسة عامّية وترى أحكم الناس قد فعل ذلك من جانب روح الله أعني ما كتب الملك سليمٰن بن داوود عليهما السلام في كتابه أمثال سليمٰن، وفي نشيد الأنشاد وفي بعض كتاب الجامعة، وكيف يُستـنكَـر تأويل كلامهم وإخراجه عن ظاهره حتى يطابق العقل ويوافق الحقّ وكتب التـنزيل، وهم بأنفسهم يتأوّلون نصوص الكتب ويخرجونها عن ظاهرها ويجعلونها مثلا وهو الحقّ، كما نجدهم يقولون إنّ قول الكتاب ﴿هو ضرب أسَدَيْ موآب﴾[21] كلـُّهُ مثـل، وكذلك قوله ﴿هو ضرب أسدًا في وسط جبّ﴾[22] مثـل، وقوله ﴿ مَن يَسقيني ماءً﴾[23] وسائر ما جرى كلّ ذلك مثـل. وكذلك كتاب أيّوب بجملته قال بعضهم إنّه كان مثلا[24] ولم يبين لأيّ معنى جعل هذا المثل. وكذلك متـّى تـنبّـأ النبي يحزقيل عليه السلام قال بعضُهم إنّه كان مثلا. وكثير مِثل هذا. فإن كنتَ يا هذا مِن إحدى الفرقتَـيْن الأوّلتـيْن فلا تنظر كلامي في شيء من هذا الغرض لأن لا يطابقك منه شيء بل يُؤذِيك وتَشنَأهُ. وكيف تُلائِم الأغـذية الخفيفة الكمّية المعتدلة الكيفية لشخص قد ﭐعتاد الأغـذية السوءة الثقيلة بل تآذيه ويشنَأها، ألا ترى قول مَن ﭐعتاد أكل البصل والثوم والسمك في المنّ ﴿ماذا هو؟﴾[25] ﴿وقد عافت أنفسنا من الطعام اخفيف﴾[26]. وإن كنتَ من أهل الفرقة الثالثة ومتى ما ورد عليك شيء من كلامهم ممّا يبعد العقل تقف عنده وتعلم أنّه لغز ومثل، وتـُـفَـكـِّر وتـُـأمِّـل شغّيل الخاطر عامر الفكرة في تأويله، مُهتَمّ لوجود مذهب الحقّ ورأى الصَواب كما قال ﴿الوصول إلى كلام الرضاء والمكتوب على التقويم وأخطبة الحقّ﴾[27]. فتأمَّل كلامي تـُـفِـد إن شاء الله تعالى٠
[19] كتاب أمثال سليمٰن، سورة ١، آية ٦
[20] كتاب القضاء، سورة ١٤، آية ١٢ [21] كتاب أخبار الأيّام الأوّل، سورة ١١ ، آية ٢٢ [22] كتاب أخبار الأيّام الأوّل، سورة ١١ ، آية ٢٢ [23] كتاب أخبار الأيّام الأوّل، سورة ١١ ، آية ١٧ [24] التلمود البابلي، جزء بابا بترا، صفحة ١٥، أ [25] التوراة، سفر الخروج، فصل ١٦، آية ١٥: قال بنو إسرئيل عندما وجدوا المنّ الذي أنزل الله لهم من السماء: ﴿ماذا هو؟﴾٠ [26] التوراة، سفر العدد، فصل ٢١، آية ٥ [27] كتاب الجامعة (لسليمٰن)، فصل ١٢، آية ١٠ والآن أبتدي بالكلام في ما أرَدتـُّهُ. إعلمْ أنّه كما لا يُدرِك الأعمى الألوان ولا يدرك الأصمُّ الأصواتَ ولا العِنِّين شهوة الجماع كذلك لا تدرك الأجسام اللذّات النفسانية، وكما لا يعلم الحوت إسْطـَقِس النار لكونه في ضدّه كذلك لا يُعلـَم في هذا العالم الجسماني بلذّات العالم الروحاني، بل ليس عندنا بوجه لذّة غير لذة الأجسام فقط وإدراك الحَواسّ من الطعام والشراب والنكاح، وما سوى ذلك فهو عندنا غير موجود ولا نميّزها ولا نُدركها على بادي الرأي إلا بعد البحث الحذيق الكثير وإنّما وَجَبَ ذلك لكوننا في العالم الجسماني فلا نُدرك إلا لذّته، فأمّا اللذّات النفسانية فهي دائمة غير منقطعة، وليس بينها وبين هذه اللذات نسبة بوجه من الوجوه، ولا يصِحّ لنا في الشرع ولا عند الإلاهيّين من الفلاسفة أن نقول إنّ الملائكة والكواكب ولأفلاك[28] ليس لها لذة، بل لهم لذة عظيمة جدًّا بما عقلوه من البارئ عزّ وجلّ، وهم بذلك في لذة دائمة غير منقطعة، ولا لذة جسمانية عندهم ولا يُدركونها لأنّ ليس لهم حواسّ مثلنا يُدرِكون بها ما نُدرِك نحن. وكذلك نحن إذا تَزَكَّى منّا مَن تَزَكَّى وصار لتلك الدرجة بعد الموت، لا يُدرِك اللذات الجسمانية ولا يريدها، إلا ما يريد الملك العظيم المُلك أن ينخلع من مُلكه ويرجع يلعب الكرة في الأسواق، وقد كان في زمانٍ ما بلا مَحالة يفضّل اللعب بتلك الكرة على المُلك وذلك في حين صِغَر سِنِّهِ عند جهله بالأمرَيْن جميعًا، كما نفضّل نحن اليوم اللذة الجسمانية على النفسانية. وإذا تأمّلتَ أمر هاتَيْن اللذّتَيْن تجد خساسة اللذّة الواحدة ورفعة الثانية ولو في هذا العالم. وذلك أنّا نجد أكثر الناس بل كلـُّهُم يُحمِّلون أنفسَهم وأجسامَهم من الشقاء والتعب ما لا مَزيد عليه كي يَنال رفعة أو يعظـِّمَهُ الناسُ. وهذه اللذّة ليس بلذّة طعام ولا شراب. وكذلك كثير من الناس يؤثِـر الانتقام من عَدُوِهِ على كثير من لذّات الجسم، وكثير من الناس يجتـنب أعظم ما يكون من اللذات الجسمانية خَشْيَة َ أن يناله في ذلك خِزي أو حِشمة من الناس، أو طلب ثناءًا حسنـًا. فإذا كانت حالتـنا في هذا العالم الجسماني هكذا ناهيك في العالم النفساني وهو الآخرة التي تَعقِل أنفسنا من البارئ فيها مِثـْلَ ما تَعقِل الأجرام العَلـَوِيّة أو أكثر، فإنّ تلك اللذّة لا تتجزأ ولا تتَّصِف، ولا يُوجَد مِثالٌ تَمثـُلُ به تلك اللذّة. بل كما قال النبي متعجبًا من عظمها ﴿يا الله ما أعظم خيرك الذي ذخرته لأتقيائك وفعلته للمستكنـّين إليك حِذاء بني آدم﴾[29] وهكذا قالوا عليهم السلام (ليس في الآخرة الأكل ولا الشرب ولا الغسل ولا المسحة ولا الجماع بل يجلس الصالحون وتيجانهم على رؤوسهم ممتـّعين ببهاء السكينة)[30] يريد بقوله وتيجانهم على رؤوسهم بقاء النفس ببقاء معلومها وكونها هي وهو شيء واحد، كما ذكر مَهَرة الفلاسفة بطرق يطول شرحها هنا. وقوله ممتـّعين ببهاء السكينة يريد بذلك أنّ تلك الأنفس تستلذّ بما تعقل من البارئ كما تستلذّ الأحياء المقدّسة[31] وسائر طبقات الملائكة كما عقلوا من وجوده.
فالسعادة والغاية القـُصْوَى هي الوصول إلى هذا الملأ الأعلـَى والحصول في هذا الحدّ وبقاء النفس كما وصفنا إلى ما لا نهايةَ كبقاء البارئ جلّ ثناؤه الذي هو سبب بقاءها بإدراكها له كما يبين في الفلسفة الأولى، وهذا هو الخير العظيم الذي لا خيرَ يُقاس به ولا لذّة يمثـُل بها، وكيف يمثل الدائم إلى لا نهاية بالشيء المنطقع وهو قوله تعالى ﴿فيكون لك خيرًا وتـُطِيل أيّامك﴾[32] وجاءنا النقل على أيديهم بشرح ذلك: ﴿فيكون لك خيرًا﴾ تـفشيره أنّ العالم الآتي كلـّه طيّب، ﴿وتطيل أيّامك﴾ فتفسيره أنّ العالم الآتي كلـّه يطول.[33] والشقاوة الكاملة هو انقطاع النفس وإتلافها وأن لا تحصل باقيةً وهو الانقطاع المذكور في التوراة ومعنى هذا انقطاع النفس كما بيّن وقال ﴿فتنقطع تلك النفس إنقطاعًا﴾[34] وقالوا عليهم السلام: تـفشير ﴿فتنقطع﴾ في الدنيا، وتفسير ﴿إنقطاعًا﴾ في الآخرة[35]. وقال الكتاب ﴿فلتكن نفس سيّدي محزومة في حزمة الأحياء﴾[36]. وكلّ مَن خلد إلى اللذّات الجسمانية ونبذ الحقّ وآثر الباطل انقطع من ذلك العلوّ ويبقى مادّة منقطعة فقط. وقد بيّن النبي أنّ الآخرة ليست تُدرَك بالحواسّ الجسمانية وهو قوله ﴿عينٌ لم تـَرَ يا ربّ سواك المنفِّذ لمن ينتظره﴾[37]، وقالوا في شرح ذلك: كلّ الأنبياء لم يتـنبّأوا إلا بالنسبة لأيّام المسيح ولكن بالنسبة للآحرة ﴿عينٌ لم تـَرَ يا ربّ سواك﴾[38]. وأمّا الوعد والوعيد المذكور في التوراة فتأويله ما أصف لك، وذلك أنّه يقول لك إن امتثلتَ هذه الشرائع نُعينك على امتثالها والكمال فيها ونقطع عنك العوائق كلـّها، لأنّ الإنسان لا تمكنه العبادة لا مريضًا ولا جائعًا ولا عاطشًا ولا في فتـنة، فوعد بزَوال هذه كلـّها وأنّهم يصِحّون ويكونون في السلام حتـّى تكمل لهم المعرفة ويستحقـّـون الحياة في الآخرة، فليس غاية التوراة أن تخصب الأرض وتطول الأعمار وتصحّ أجسامهم وإنّما يُعان على امتثالها بهذه الأشياء كلـّها، وكذلك إن تعدوا كان عقابهم أن تَحدُث تلك العوائق كلـّها حتى لا يمكنهم أن يعملوا عمل صالح وكما قال ﴿بَدَلَ ما لم تعبد الله ربَّـك﴾[39]، فإذا تأملت هذا التأمل العجيب تجده كأنّه يقول إن فعلتَ بعض هذه الشرائع بمحبّةٍ وحِرصٍ أعِينك عليها كلـّها بأن أزيل عنك العوائق والموانع، وإن ضيّعتَ منها بعضها استخفافـًا أجلب لك موانع تمنَعك من جميعها حتى لا يحصل لك كمال ولا بقاء، وهذا هو معنى قولهم عليهم السلام (ثوابُ وصيةٍ وصيةٌ وعقبُ مخالفةٍ مخالفةٌ)[40]٠ وأمّا جنـّة عدن فموضع خصيب من كرة الأرض كثير المياه والثمار سيكشِفه الله للناس في المستقبل[41] ويدلـّهم على طريقه فيتـنعّمون به، ولعلّ يوجد فيه نباتات غريـبة جدًّا عظيمة النفع كثيرة اللذّة غير هذه المشهورة عندنا، وهذا كلـّه غير مستحيل ولا بعيد بل قريب المنال. ولو لم تذكره الشريعة يعني التوراة، فكيف وقد بان هذا في الشريعة واشتهـر٠ [28]
كان يعتقد كثير من الفلاسفة الكلاسكية مثل الفرابي وابن سينا وابن رشد والغزّالي والحاخام موسى بن ميمون وغيرهم على أنّ الكواكب والنجوم والأفلاك كانت لها النفوس الخالدة والعقل فضلا عن المَيْـل الفطري. وفقـًا لفهمهم انتلقت الأجرام الفلكية من الطاعة لإرادة الله. بعبارة أخرى كانت مماثِلة الملائكة في عبادة الله٠ [29] الزبور، سورة ۳١، آية ٢٠ [30] التلمود البابلي، جزء برخوت (بركات)، صفحة ١٧، أ [31] نوع من الملائكة [32] التوراة، كتاب التثـنية، فصل ٢٢، آية ٧ [33] التلمود البابلي، جزء الأقداس، صفحة ۳٩، ب [34] التوراة، سفر العدد، فصل ١٥، آية ۳١ [35] التلمود البابلي، جزء سنهدرين، صفحة ٦۴، ب و صفحة ٩٠- ب [36] كتاب صموئيل الأوّل، سورة ٢٥، آية ٢٩ 37] كتاب يشعياه، سورة ٦۴، آية ٣ [38] التلمود البابلي، جزء السبت، صفحة ٦۳، أ [39] التوراة، كتاب التثـنية، فصل ٢٨، آية ۴٧ [40] مشناة، جزء الآباء، باب ٤، مشناة ٢ [41] قد يعني الأراضي المكتشفة كما الأمريكتين أو بشكل عامّ الاكتشافات المبتكرة وأمّا جهنّم فهي عبارة عن ألم يُدرِك الأشـرّاء لم يَبـِنْ في التلمود صفة هذا الألم، بل بعضهم يقول الشمس تقرُب منهم فتـُحرِقهم ويستدلّ بقوله ﴿فإنّ يئين اليوم لاهبًا كتـنّور﴾[42]. وبعضهم يقول حرارة غريبة تحدث في أجسمهم فتُحرِقهم ويستدلّ من قوله ﴿تـنفـُّـسُكم نارٌ يلتهمكم﴾[43]. وإنّ القيامة قاعدة من قواعد شريعة سيّدنا موسى سلـّم الله عليه، لا دين ولا ارتباط بالملـّة اليهودية لمن لا يعتقد ذلك. لكنّ القيامة للفضلاء فقط. ونصّ بريشيث ربّا[44] هطول الأمطار للصالحين وللأشرّاء والقيامة للصالحين فقط. وكيف يعيش الظالمون وهم أموات ولو في حياتهم. وهكذا قالوا عليهم السلام: (إنّ الأشرّاء حتـّى في حياتهم يتسمّون موتى)[45]، (والصالحون حتـّى في موتهم يتسمّون أحياء)[46]. وإعلمْ بالاضافة أنّ الإنسان يموت ضرورة ً وينحلّ لما تركّب منه٠
[42] كتاب ملأكي، سورة ٣، آية ١٩
[43] كتاب يشعياه، سورة ٣٣، آية ١١ [44] تفسير من تفاسير التوراة [45] التلمود البابلي، جزء البركات، صفحة ١۸، ب [46] التلمود البابلي، جزء البركات، صفحة ١۸، أ وأمّا أيّام المسيح فهو زمان يرجع المُلك فيه لبني إسرائيل ويرجعون إلى فلسطين، ويكون ذلك المُلك القائم قاعدة مُلكه جبل صهيون الذي في القدس، ويعظـُم اسمه ويملأ آفاق الأرض أعظم مِن مُلك سليمٰن بن داوود عليهما السلام وأكثر وتـُسَالِمُهُ الملل وتـُطيعه البلاد لعظم عدله، وعجائب تظهَر على يديه، وكلّ مَن يقوم عليه يقطعه الله و يُلقِيه في يده، وجميع نصوص كتب القراءة تشهَد بسَعادته وسعادتنا به، ولا يتغير في الوجود شيء عمّا هو عليه الآن، غير أنّ المُلك يكون لبني إسرائيل ونصّ للحاخامات: (لا فرق بين هذا العصر وبين أيّام المسيح باستـثـناءعدم وجود الاضطهاد من قِـبَـل الممالك الأجنبيّة فقط)[47]. ويكون في أيّامِهِ القوّيُّ والضعيفُ بالإضافة إلى غيره، لكن في تلك الأيّام تسهل على الناس معائشهم جدًّا حتى يكون كدح الانسان ضئيلا للغاية ويصل إلى فائدة عظيمة، وهذا هو معنى قولهم[48] (مستقبل بلد إسرائيل أن تنتاج الكعك والجلابيب الصوفية)، لأنّ الناس يقولون إذا وجد أحد شيئًا ياسِرًا مُهَيَّأ وجد فلان خبزًا مخبوزًا وطعامًا مطبوخًا، ودليلك على هذا قول النصّ ﴿ويكون أبناء الأجانب حُرّاثكم وكرّاميكم﴾[49]، دليل أنّ ثمّ الحَرْث والحَصاد، ولذلك حرّج هذا الحكم القائل[50] لهذا الكلام على تلميذه عند ما لم يفهم عنه هذا الغرض وظنّ الكلام على ظاهره، فجاوبه على قدر إدراكه وليس ذلك هو الجواب، والدليل على أنّه لم يحاققه استدلاله ب﴿لا تـُجـِب الجاهل حَسَبَ حماقته﴾[51]. والفائدة العظيمة في ذلك الزمان هو أن نستريح من عبودية مملكة الشرّ التي تعُوقنا عن الفضائل كلـّها ويكثر العلم كما قال ﴿إنّ الأرض تمتلئ من مَعرِفة الله﴾[52]، وتـنقطع الفتن والحروب كما قال ﴿لن يرفع شعبٌ على شعبٍ سيفـًا﴾[53]. فيَصِحّ للذي يكون في تلك الأيّام كمالٌ كثير يرتقي به إلى الحياة في الآخرة. والمسيح يموت ويلي ابنه وابن ابنه، وقد بيّن الله موته قال ﴿لن يُكِلّ ولن يتعرقل حتى يرسّخ العدل في الأرض﴾[54]، ويدوم مُلكه دوامًا عظيمًا جدًّا، وتطول الأعمار أيضًا، لأنّ بارتفاع الأحزان والأنكاد تطول الأعمار. وليس بغريب دوام مملكته آلاف السنين لأنّ الحكماء الفلاسفة[55] قد قالوا إنّ عندما يكون مجتمع أخلاقي يستفيد الجميع منه فمِن غير المحتمل أن يتخلـّـون عنه٠
[47] التلمود البابلي، جزء البركات، صفحة ٣۴، ب
[48] التلمود البابلي، جزء السبت، صفحة ٣٠، ب [49] كتاب يشعياه، سورة ٦١، آية ٥ [50] اسمه ربّان جمليئيل [51] أمثال سليمٰن، سورة ٢٦، آية ۴ [52] كتاب يشعياه، سورة ١١، آية ٩ [53] كتاب يشعياه، سورة ٢، آية ۴ [54] كتاب يشعياه، سورة ۴٢، آية [55] وخاصّة ً أرسطو ولا تسترغب أيّام المسيح لا ليكثر الزرع والمال، ولا لنركب الخيل ونشرب بآلات اللهو كما يظنّ المخـتلطي العقول، وإنّما تمنّاها الأنبياء وتشوّقها الفضلاء لما يكون فيها من الجمع الفاضل، والسيرة الحسنة، والعلم، وعدل المُلك وعظيم علمه وقربه من بارئه كما قال له ﴿أنت وليّي﴾[56]، وامتثال جُملة شريعة سيّدنا موسى سلـّم الله عليه من غير مَلـَـل ولا قلق ولا جَبر كما وعد ﴿ولن يحضّ في ما بعد كلّ واحد قريبه قائلا اعرف الله ربَّـك لأنّهم جميعًا سيعرفونني من صغارهم إلى كبارهم﴾[57]، ﴿وأعطي شريعتي في دواخلهم وعلى قلوبهم أكتـبـنّها﴾[58]، ﴿وأزيل قلب الحجر من لحمهم﴾[59]، كثير من هذه النصوص في هذه الأغراض، فيُنال بهذه الأحوال الحياة في الآخرة نَيْلا قوّيّـًا، والغاية إنّما هي الآخرة ونحوها هو السعي، ولذلك نظر هذا المُؤَيَّد بالحقّ في الغاية القُصوَى وترك ما سِوَى ذلك، فقال[60] (كلّ بني إسرائيل إنّ لهم حِصّة في الآخرة)، ومع كونها الغاية لا ينبغي لمن يريد أن يكون عابدًا من الحبّ أن يعبد ليَنال الآخرة كما بيّنـّا في ما تقدّم. وإنّما يعبد على على طريقةٍ أصِفـُها. وذلك أنّه إذا اعتقد بأن ثمّ عِلمٌ وصل إلى الانبياء من قبل الله الذي عَلـَّمَهُم به أنّ الفضائل هي كذا والرذائل هي كذا، يجب عليه لأنّه شخص صالح أن يأتي الفضائل ويجتنب الرذائل، فإذا فعل هذا كمَل فيه معنى الإنسان وانفصل عن البهائم. وإذا حصل إنسان كامل كان من فصول الإنسان الذي لم يُعَوِّقه عائق أن تبقى نفسه ببقاء معلومها وهذا هو الآخرة كما بيّنّا. وهذا هو معنى قوله ﴿فلا تكونوا كالحصان أوالبغل بلا عقل﴾[61] والخ، يعني ما الذي يمانع البهيمية في الإنسان عن أن تصبح غير مُسَيْطَرًا عليها إنّما هو شيء من خارج كالِلجام والرَسَن ليس يكون الإنسان كذلك. وإنّما يكون مانعه منه نفسه أعني صورته الإنسانية. إذا كانت كاملة هي تمنعه ممّا يمنعه الكمالُ وهي تتسمّى رذائل، وهي تَحُضُّهُ على ما يكمل به وهي الفضائل، وهذا هو ما أصبح واضحـًا بالنسبة لي، من جُملة كلامهم في هذا المعنى الرفيع العظيم الخطر٠
[56] الزبور، سورة ٢، آية ٧
[57] كتاب إرمياه، سورة ۳١، آية ۳۳ [58] إرمياه، سورة ۳١، آية ۳۳ [59] يحزقيل، سورة ١١، آية ١٩ [60] من مشناتنا هذه [61] الزبور، سورة ۳٢، آية ٩ وسأؤَلـِّف تأليفـًا[62] أجمع فيه جميع التفاسير الموجودة في التلمود وغيره وأبيّنها وأتأوّلها تأويلا يطابق الحقائق وأستدلّ على ذلك كله بكلامهم أيضًا. وأظهـِر ما منها على ظاهره وما منها مثـل، وما منها جرى في الالحلم وذكروه بقول مُرسَل كإنّه جرى في اليقظة. وفي ذلك التأليف أُبيِّن لك اعتقادات كثيرة، وفيها أُبيِّن جملة الأشياء التي أعطيتك منها في كلامي هذا نماذِج واضحة تَقيس عليها. ولا ينتقد على ما جرى في كلامي من التسامُحفي بعض الألفاظ ومعاني ينتقدها أهل الحكمة، لأنّي تسامحتُ في هذا القَدْر لأُفهـِم مَن لم تتقدم له حُنكة بشيء من هذا الغرض الرفيع الذي لا يُدرِكه كلّ الناس٠
[62] ممّا يؤسف له لم ينجح المؤلف الحاخام في جمع هذا التأليف خلال حياته
ولفظة أپـيقوروس، يعني كافر، هي لفظة سريانية[63] معناها الاستخفاف والتهاوُن بالشريعة أو بحَمَلـَةِ الشريعة، ولذلك يُطلِقون هذا الاسم على مَن لا يعتقد قواعد الشرع أو مَن يُهـِـين الحاخامات أو أيّ عالم ديني كان أو أستاذه٠
[63] في حقيقة الأمر كلمة أپـيقوروس من اسم الفيلسوف اليوناني أبيقور
و(الكتب الغير مقبولة)[64]، قالوا: كُتُب الكافرين والملاحدة. وكذلك كتب ابن سيراخ وكان رجل ألـَّفَ كتبًا في هَذَيَان من معاني الفِراسة لا عِلمَ فيها ولا فائدة إلا إتلاف الدهر في فارغ، نحو هذه الكتب الموجودة عند العرب من كتب التواريخ وسير الملوك وأنساب العرب وكتب الأغاني ونحوها من الكتب التي لا علمَ فيها ولا فائدة جسمانية إلا تإتلاف الزمان فقط[65]٠
[64] استمرار تـفسير المشناة. وفقـًا لرأي الحبرعقيبا: مَن قرأ الكتب الغير مقبولة فليست له حصّة في العالم الآتي
[65] بطبيعة الحال لا يعني المؤلـّـف الحاخام أن يحظر على جميع الكتب الغير مقدّسة، ناهيك عن مَن يقرؤها يَخسَر حصّـته في الآخرة. لكنه يأخذ موقف خطير للغاية بحظر الكتب التي لمجرّد التسلية. بالنسبة للمؤلـّف الحاخام إضاعة الوقت تساوي تبديد النفس. لذلك مَن لا يستخدم وفته (الذي أعطاه له الله) بل يضيعه فإنّه يرفض هدية الله وهذه خطيئة جسيمة. ولكن مَن يدرس الأدب العربي الكلاسكي (وبالتالي آداب كلّ الأمم الأخرى) ليس فقط للتسلية بل لتحسين معرفته النحو أو التاريخ أو غيرها فيبدو أن لا انتهك هذا المبدأ٠ و(مَن همس على جُرح)[66] - مُنشِدًا آية من التوراة - ، بشَرط بالبصق لأنّ في ذلك إهانة اسم الله. و(مَن تلفـّـظ بـِٱسم ِ اللهِ حرفـيّـًا)[67]، أن يتهجّأ الحروف الأربعة للاسم الإلـٰهي الأقدس الغير منطوق: ياء هاء واو هاء، التي هي الاسم الصريح. وقد ذكروا أشياء غير هذه وفاعِلـُهُ (ليست له حصّة في الآخرة)[68]. قالوا (مَن أخجل رفيقـَهُ علانيّة ً ليست له حصّة في الآخرة)[69]، (مَن كنّى رفيقـَهُ باسم هزلي ازدرائي)[70]، (ومَن كرّم نفسَه من خلال إحراج شخص آخر)[71]، لأن لا يَصدُر فِعل من هذه الأفعال وإن كانت صغائر بزعم الزاعم إلا عن نفس ناقصة لم تكمل ولا تصلح للحياة في الآخرة٠
[66] استمرار تـفسير المشناة
[67] استمرار تـفسير المشناة [68] التلمود البابلي، جزء سنهدرين، صفحة ٩٠، أ [69] التلمود البابلي، جزءالباب الأوسط، صفحة ٥٨، ب. إنّ الترجمة الحرفيّة من نصّ التلمود هي (مَن بيّض وجهَ رفيقه) لأنّ مَن ِ استحى أمام الجمهور شُحِب وجهه، كما لو انفسك دمه [70] التلمود البابلي، جزء الباب الأوسط، صفحة ٥٨، ب [71] التلمود الفلسطيني (التلمود القدسي)، جزء حجيجاة، فصل ٢، قانون ١ وممّا يجب أن أذكره هنا وهذا أحقّ موضِع بذكره أنّ أصول شريعتـنا وقواعدها ثلاث عشرة قاعدة
القاعدة الأولى وجود البارئ سبحانه٠ وذلك أنّ ثـَمّ موجود بأكمل أنحاء الوجود، وهو عِلـّة وجود الموجودات كلها، وبه قـَوام وجودها ومنه تستمدّ البقاء، ولو قدرنا ارتفاع وجوده لبُطل وجود كلّ موجود ولم يـبقَ مُستقِـّلا بوجوده، ولو قدرنا ارتفاع الموجودات كلها غيره لـَمَا بَطـَلَ وجودُه تعالى ولا نَقَصَ، لأنّه تعالى غنيّ غير مفتقِر في وجوده لغيره، وكلّ ما سواه من العقول أعني الملائكة وأجرام الأفلاك[72] وما دونها الكلّ مفتقر في وجوده إليه، وهذه القاعدة الأولى هي المدلول عليها بكلمة ﴿إنـّي اللهُ ربّك﴾[73]٠
[72] فيما يتعلق بالاعتقاد بأنّ الكواكب والأفلاك لها النفوس فانظر أعلاه
[73] التوراة، كتاب الخروج، فصل ٢٠، آية ٢ والقاعدة الثانية وحدته تعالى. وذلك أنّ هذا عِلـّة الكلّ واحد، ليس كواحد الجسم ولا كواحد النوع، ولا كالشخص الواحد المُرَكَّب الذي هو ينقسِم لآحاد كثيرة، ولا واحد كالجسم البسيط الواحد بالعدد الذي يقبـِل الانقسام والتجزّؤ إلى ما لا نهاية، بل هو تعالى واحد بوحدة ليس كمثـلها وحدة بوجه وهذه القاعدة الثانية هي المدلول عليها بقوله[74] ﴿إسمع يا إسرائيل الله ربّـنا الله أحد﴾٠
[74] التوراة، كتاب التثنية، فصل ٦، آية ۴
والقاعدة الثالثة نَفْي الجسمانية عنه. وذلك أنّ هذا الواحد ما هو جسم ولا قوّة لجسم، ولا تَلحَقه لواحق الاجسام مثل الحركة والسكون، لا بالذات ولا بالعَرض، ولذلك نفوا عنه عليهم السلام الاتـّصال والانفصال وقالوا[75] (لا جلوس ولا وقوف ولا خلف ولا تعب)، يعنون لا انفصال وهو خلف ولا اتـّصال وهو تعب (بالعبرية "عيفوي") من قوله[76] ﴿وينقضّـون (بالعبرية "وعافوا") على كتف الفَـلِـشْـتِيـنِيّين﴾[77] يعني يدفـَعُونهم بالكتف لاتّصالهم بهم. وقال النبي ﴿بـِمَن تـُشَبـّهون الله؟ ﴾ والخ[78]،﴿فبمَن إذًا تقارنونني فأكون نظيره؟﴾[79]، ولو كان جسمًا لأشبَهَ الأجسام. وكلّ ما جاء في الكتب من وصفه بأوصاف الأجسام مِثل التـنقل والقيام والقعود والكلام ونحو ذلك فهي كلها مَجاز وكما قالوا[80] (قالت التوراة بلغة بني آدم، يعني في الألفاظ البشرية) وقد تكلم الناس في هذا الباب كثيرًا. وهذه القاعدة الثالثة هي المدلول عليها بقوله[81] ﴿فلم تروا أيّ شبهة﴾ يعني لم تُدرِكوه ذا شبهة لأنّه كما قلنا لا جسم ولا قوة لجسم٠
[75] التلمود البابلي، جزء حجيجاة، صفحة ١٥، أ
[76] كتاب يشعياه، سورة ١١، آية ١۴ [77] كان هؤلاء الفَـلِـشْـتِيـنِيّون في قرون الأنبياء غير عرب وعُبّاد الأوثان بدون اتّصال للفلسطينيّين في الوقت الحاضر [78] كتاب يشعياه، سورة ۴٠، آية ٢٥ [79] نفس الآية [80] التلمود البابلي، جزء عبادة الصنم، صفحة ٢٧، أ [81] التوراة، كتاب التثنية، فصل ۴، آية ١٥ والقاعدة الرابعة القِدَم. وذلك أنّ هذا الواحد الموصوف هو القديم على الأطلاق، وكلّ موجود غيره فهو غير قديم باعتباره إليه، ودلائل هذا في الكتب كثيرة. وهذه القاعدة الرابعة هي المدلول عليها بقوله[82] ﴿وهو الملجأ الله القديم﴾٠
[82] التوراة، كتاب التثنية، فصل ۳۳، آية ٢٧
والقاعدة الخامسة أنّه تعالى هو الذي ينبغي أن يُعبَد ويُعَظـَّم ويُعلـَن بتعظيمه وطاعته، ولا يُفعَل ذلك لمِن دونه في الوجود من الملائكة والكواكب والأسطقسات وما تَرَكَّبَ منها، لأنّها كلها مطبوعة على أفعالها لا حُكمَ لها ولا أختيار إلا حُبّه تعالى. ولا تتّخِذ وسائط للتوصُّل اليه، بل نحوه تعالى تقصد الأفكار وتَضرِب عمّا دونه. وهذه القاعدة الخامسة في النهي عن עعبادة الصنم وأكثر التوراة في النهي عنها٠
والقاعدة السادسة النُبُوّة. وذلك بأن يعلم أنّ هذا النوع الإنساني قد يوجد فيه أشخاص لهم فِطـَر فائقة جدًّا وكمال كثير، وتتهيّأ نفوسهم حتى تَقبـِل صورة العقل، ثم يتّصل ذلك العقل الإنساني بالعقل الفاعل ويَفـِيض عليهم منه فـَيْضٍ كريم [يعني انبثاق إلاهي]، وأولائك هم الأنبياء. وهذه هي النبوّة وهذا معناها. وتَبْـيـِين هذه القاعدة على الكمال يطول جدًّا، وليس قـَصْدنا تُبَرْهَن كلّ قاعدة منها وتبـيـين وجوه إدراكها إذ هذا هو جملة العلوم كلها. وإنّما نذكرها على جهة الخبر [الإعلام] فقط. ونصوص التوراة تشهد بنبوّة أنبياء كثيرين٠
والقاعدة السابعة نبوّة سيّدنا موسى سلـّم الله عليه. وذلك بأن يعتقد أنّه أبو كلّ الأنبياء[83] المتقدّمين قبله والمتأخّرين بعده، الكلّ هم دونه في الرُتبة، وهو صفوة الله من جميع النوع الإنساني، المُدرِك منه تعالى أكثرَ مِمّا أدْرَكَ ويُدْرِكُ كلّ إنسان وَجَدَ ويُوجَد، وأنّه عليه السلام تـناها في العلو عن الإنسانية حتى أدرك الرتبة الملكوتية وصار في رتبة الملائكة، لم يبقَ له حجاب إلا وخرقه، ولا عاقهُ عائق جسماني، ولا شابه شيء من النقص قليلا ولا كثيرًا، وتعطلت منه القُوَى الخيالية والحَسّيّة في مُدرَكاته، وانغلبت قوته النزوعية، وبقي عقل فقط. ولهذا المعنى كـُنِيَ عنه بكونه يخاطب الله دون واسطة الملائكة. ولقد كان نُبيّن هنا هذا المعنى الغريب ونَحُلّ مُقفَلات نصوص التوراة ونبين معنى فمًا لفم ٍ[84] وجملة هذا الآية وغيره من غرضه، لولا أنّي رأيت أنّ هذه المعاني دقيقة جدًّا وتحتاج إلى بَسط كثير ومُقدّمات وأمثلة، وأن يَبـِين قـَبْلُ وجود الملائكة واختلاف رتبها من البارئ وأن تَبـِين النفس وجميع قـُوَاها، وتتّسع الدائرة إلى الكلام في الصور التي ذكرها الأنبياء للبارئ وللملائكة، ويندرج في ذلك الآيات في حجم القامة الإلاهية ومعناها، ولا يفي بهذا الغرض وحده ولو أوجزت غاية الإيجاز مائة ورقة، فلذلك أتركه لموضعه، أمّا في كتاب تأويل التفاسير الذي وعدتُ به، أو في كتاب النبوّة الذي بدأتُه، أو في كتاب أؤَلـِّفُه في شرح هذه القواعد. وأرجِع إلى غرض هذه القاعدة السابعة، فأقول إنّ نبوّة موسى انفصلت عن نبوّة جملة الأنبياء بأربعة فصول٠
[83] وليّ، متفوّق، صفوة
[84] التوراة، كتاب العدد، فصل ١٢، آية ٨: ﴿أتكلـّـمُهُ فمًا لفم ٍ﴾٠ الفصل الاوّل أنّ أيّ نبي كان لا يكلمه الله إلا بواسطة، وموسى دون واسطة كما قال ﴿أتكلـّـمُهُ فمًا لفم ٍ﴾[85]٠ والفصل الثاني أنّ كلّ نبي لا يأتيه الوحي إلا في حال النوم كما قال في مواضع ﴿في حُلم الليل﴾[86]، ﴿وَحَلـَمَ﴾[87] ﴿في حُلم أو رؤيا ليل﴾[88] وكثير من هذا الغرض. أو بالنهار بعد سُباتٍ يُصيب النبي وحالةٍ تتعطل فيها حَواسّه وتُخلِي فِكرتَه شِبه نوم، وهذه الحالة تتسمّى منظر ورؤيا، وعنها يقول ﴿برؤى الله﴾[89]، وموسى يأتيه الخطاب بالنهار وهو قائمًا بين الكرُوبَـيْـن[90] كما وعده الله ﴿وأحاضرك هناك وأخاطبك﴾[91]، قال تعالى ﴿إن كان بينكم نبي لله فإنّي أتعرّف إليه في الرؤيا أو أخاطبه في الحلم. أمّا عبدي موسى فليس كذلك﴾[92]٠
[85] التوراة، كتاب العدد، فصل ١٢، آية ٨
[86] التوراة، كتاب التكوين، فصل ٢٠، آية ۳ [87] التوراة، كتاب التكوين، فصل ٢٨، آية ١٢ [88] كتاب أيّوب، سورة ۳۳، آية ١٥ [89] كتاب يحزقيل، سورة ۴٠، آية ٢ [90] التوراة، سفر الخروج، فصل ٢٥، آية ٢٢: ﴿وأخاطبك من فوق الغطاء من بين الكرُوبَـيْـن الذَيْن على تابوت الشهادة﴾٠ [91] نفس الآية [92] التوراة، سفر العدد، فصل ١٢، آية ٦-٧ والفصل الثالث أنّ النبي إذا أتاه الوحي وعلى أنّه برؤيا وبواسطة ملأك وتخوّر طِباعه وتختلّ بِنيته ويَرِد عليه هول عظيم جدًّا يَكاد ينفطر منه كما بُيِّنَ في كتاب النبي دانيئيل عليه السلام في كلام جبريل له بمَرآهُ قال ﴿ولم تبقَ بي القوّة ونضارتي انقلبت إلى ذبول وفقدتُ قـُدْرتي﴾[93]. وقال ﴿وأنا كنت نائمًا على وجهي ووجهي اتـّـجه إلى الأرض﴾[94]، وقال ﴿قد غلبني الألم بسبب الرؤيا﴾[95]، وموسى سلـّم الله عليه ليس كذلك بل يأتيه الخطاب فلا يلحَقه اضطراب بوجه وهو قوله ﴿وكان الله يكلـّـم موسى وجهًا لوجه ٍ كما يكلـّـم الإنسان صاحبَه﴾[96]، يعني كما لا يصيب الإنسان انزعاج من كلام صاحبه كذلك هو عليه السلام ما كان ينزعج من الخطاب وإن كان ﴿وجهًا لوجه ٍ﴾، وهذا لشدة اتـّصاله بالعقل كما قلنا٠
[93] كتاب دانيئيل، سورة ١٠، آية ٨
[94] كتاب دانيئيل، سورة ١٠، آية ٩ [95] كتاب دانيئيل، سورة ١٠، آية ١٦ [96] التوراة، سفر الخروج، فصل ۳۳، آية ١١ والفصل الرابع أنّ جميع الانبياء ليس يأتيهم الوحي باختيارهم بل بإرادة الله، فقد يبقى النبي مدّة سنين لا يأتيه وحي. وقد يَطلـُب شخصٌ من النبي أن يُخبـِر بوحي فيبقَى حتّى يُنبـِئ به بعد أيّام أو بعد أشهر أو لا يُعلِم به بوجه، وقد رأينا منهم مَن يتهيّأ بأن يـبسُط نفسه بواسطة الفرحة ويُصَـفِّي خاطره كما فعل النبي أليشع عليه السلام في قوله ﴿والآن ادعوا عازف عود﴾[97]، فجاءه الوحي، وليس هو ضروري أن يوحي إليه متى تهيّأ وسيّدنا موسى متّى شاء قال ﴿انتظروا ريثما أسمع بما يأمركم الله﴾[98]، وقال ﴿مُر هرون أخاك بأن لا يدخل في كل وقت﴾[99]، وفسّروا الحاخامات (حرّم الله على هرون عليه السلام أن يدخل المعبد في كلّ وقت ولا كان هذا التحريم على سيّدنا موسى سلـّـم الله عليه)٠
[97] كتاب الملوك الثاني، سورة ٣، آية ١٥
[98] التوراة، سفر العدد، فصل ٩، آية ۸ [99] التوراة، سفر اللاويين، فصل ١٦، آية ٢ والقاعدة الثامنة هي أنّ التوراة من السماء، يعني من عند الله. وذلك بأن يعتقد أنّ جميع هذه التوراة الموجودة بأيدينا يومنا هذا هي التوراة المنزلة على سيّدنا موسى وأنّها كلها من العلي القدير أعني أنّها وصلت له كلها من قبل الله الوصول الذي يُسمِّيهِ على سبيل المَجاز كلام، ولا يَعلم كيفية ذلك الوصول إلا هو عليه السلام، الذي وصل اليه. وأنّه بمنزلةِ ناسِخ ٍ يُملِي الله عليه ويكتب جميعها تواريخها وأخبارها وشرائعها وكذا سُمِّيَ مشرِّع ولا فـَرْقَ بين ﴿وكان أبناء حام: كوش (النوبة) ومصرَيْن (مصر) وفوط (ليبيا) وكنعان﴾[100]، ﴿وكانت زوجته مهيطبئيل بنت مطرد﴾[101]، ﴿وكانت تمناع سُرّيّة﴾[102] أو ﴿إنـّي الله ربّـك﴾[103] و﴿اسمع يا إسرائيل الله ربّـنا الله أحد﴾[104]. الكلّ من العلي القدير، وكلّ توراة الله الكاملة والطاهرة والمقدّسة والحقيقة. وإنّما صار منسّى[105] في رأي الأنبياء والحكماء أشدّ كفر ونِفاق من كلّ كافر لظنّته أنّ في التوراة لبّ وقِشر، وأنّ هذه التواريخ والأخبار لا فائدة فيها وأنّها من عند موسى سلّم الله عليه وهو معنى ليست التوراة من عند الله. قالوا هو الذي يعتقد أنّ (كلّ التوراة من عند العلي القدير إلا آية واحدة لم يقلها القدّوس المبارك بل موسى من تِلقاءَ ذاته)[106]. وهذا الذي قيل في التوراة: ﴿احتقر كلام الله﴾[107]. تعالى الله على قول الكافرين. بل كلّ حرف منها فيه الحكم والعجائب لمن فهّمه الله، ولا تُدرَك غاية حكمتها ﴿أطـْوَل من الأرض وأعْرَض من البحر﴾[108]، وليس للإنسان إلا الحَذو نحو داوود مسيحُ ربّ ِ يعقوب الذي دعا ﴿اكشف عينيّ فأنظر عجائب توراتك﴾[109]، وكذلك تفسيره المنقول هو أيضًا من العلي القدير وهذا الذي نعلمه اليوم من صفة المِظلـّة[110] واللولاب[111] والشوفار[112] ولصيصيت[113] والتفِلـِّـين[114] وغيرها هي بعينها الصفة التي قال الله لسيّدنا موسى وقال لنا، وهو موصل رسالة أمين في توصيله. والقول المدلول به على هذه القاعدة الثامنة هو قوله ﴿بهذا ستعلمون أنّ الله أرسلني لأعمل جميع هذه الأعمال وأنـّها ليست صادرة عن نفسي﴾[115]٠
[100] التوراة، سفر التكوين، فصل ١٠، آية ٦
[101] التوراة، سفر التكوين، فصل ۳٦، آية ۳٩ [102] التوراة، سفر التكوين، فصل ۳٦، آية ١٢ [103] التوراة، سفر الخروج، فصل ٢٠، آية ٢ [104] التوراة، سفر التثـنية، فصل ۸، آية ۴ [105] الملك منسّى بن حزقيّاه الذي كان ملكـًا على يهوذا وارتدّ الى الوثـنيّة [106] التلمود البابلي، جزء سنهدوين، صفحة ٩٩، أ [107] التوراة، سفر العدد، فصل ١٥، آية ۳١ [108] كتاب أيّوب، سورة ١١، آية ٩ [109] الزبور، سورة ١١٩، آية ١۸ [110] الكوخ المستخدم في عيد المظلات [111] فرع من قلب النخلة يستخدم في عيد المظلات [112] البوق المصنوع من قرن الماعز أو الغزال، اليستخدم في عيد رأس السنة [113] هُدّاب الثوب الملبوس خاصّة ً خلال صلاة الصبح [114] صندوق أسود صغير يوضع على الجبهة وعلى الذراع خاصّة ً خلال صلاة الصبح وداخل هذا الصندوق آيات من التوراة [115] التوراة، سفر العدد، فصل ١٦، آية ٢۸ والقاعـدة التاسعة النسخ. وذلك أنّ هذه شريعة موسى لا تنسخ ولا تأتي شريعة مِن قبل الله غيرها، ولا يُزاد فيها ولا يُنقـَص منها لا في النصّ ولا في التفسير، قال ﴿كلّ ما أوصيكم به لا تـُزيدوا عليه ولا تـُـنقصوا منه﴾[116]. وقد بيّنّا ما ينبغي في هذه القاعدة في صدر هذا التأليف٠
[116] التوراة، سفر التثنسة، فصل ١۳، آية ١
والقاعدة العاشرة أنّه تعالى يعلم أفعال الناس ولا يُهمِلها وليس كرأي من قال ﴿إنّ الله غادر الأرضَ﴾[117]، بل ممّا قال ﴿عظيم في المشورة وقادر قي العدل وعينيك مفتوحتان تـُراقبان جميع طـُرُق الإنسان﴾[118]، وقال ﴿ورأى الله أن كَـثـُرَ شرُّ الإنسان في الأرض﴾[119]، وقال ﴿إنّ صُراخ سدوم وغموراه كثـُرَت﴾[120]، فهذا يدلّ على هذه القاعدة العاشرة٠
[117] كتاب يحزقيل، سورة ۸، آية ١٢
[118] كتاب يرمياه، سورة ۳٢، آية ١٩ [119] التوراة، سفر التكوين، فصل ٦، آية ٥ [120] التوراة، سفر التكوين، فصل ١۸، آية ٢٠ والقاعدة الحادية عشر أنّه تعالى يُجازِي مَن يمتثل أوامر التوراة، ويعاقب مَن يرتكب نواهيها. وأنّ أعظم جزائه الآخرة، وأشدّ عقابه الانقطاع، وقد قلنا في هذا الفصل ما فيه كفاية. والنصّ المدلول به على هذه القاعدة قوله ﴿إذا تغفر خطاياهم وإلا فامحُني من كتابك﴾[121]، وجاوبه تعالى ﴿مَن أخطأ إليّ أمحوه من كتابي﴾[122] دليل على تحصيل الطائع والعاصي ليُجازِي هذا ويعاقب هذا٠
[121] التوراة، سفر الخروج، فصل ٣٢، آية ٣٢
[122] التوراة، سفر الخروج، فصل ٣٢، آية ٣٣ والقاعدة الثانية عشر أيّام المسيح وهو الإيمان والتصديق بمَجيئه ولا يستبطئ (حتى إذا يستغرق وقتـًا طويلا فتوقـّعْه)، ولا يَضرِب له أجلا ولا يتأول النصوص لإخراج وقت مَجيئه، وحكماء التلمود يقولون (تـفسُد عقول الذين يحسبون النهاية)[123]. وأن يعتقد فيه من التعظيم والمحبّة والدعاء له على قـَدْرِ ما جاءَ فيه على أيدي كلّ نبي من سيّدنا موسى سلـّم الله عليه إلى النبي ملأكي عليه السلام[124]. ومَن شكّ فيه أو استقلّ أمرَه كذّب التوراة التي وعدت به بتصريح في سورة بلعام[125] وسورة وأنتم ماثلون[126]. ومن جملة هذه القاعدة أن لا مَلِك لبني إسرائيل إلا من الملك داوود عليه السلام ومن نسل الملك سليمٰن بن داوود عليهما السلام خاصّة، وكلّ مَن خالـَفَ أمر هذه السُلالة الداووديّة كَفَرَ بالله وبنصوص أنبيائه٠
[123] التلمود البابلي، جزء سنهدرين، صفحة ٩٧، ب
[124] (النبي اليهودي الأخير) [125] هي سورة بلاق. التوراة، كتاب العدد، فصل٢٢، آية ٢ حتى فصل ٢٥، آية ٩ [126] التوراة. كتاب التـثـنية، فصل ٢٩، آية ٩ حتى فصل ۳٠، آية ٢٠ والقاعدة الثالثة عشر القيامة وقد بيـّنـّاها٠
فإذا سَلِمَتْ للإنسان هذه القواعـد كلها وصحّ اعتقاده لها فهو داخل أمّة إسرائيل ويلزَم مَحبَّـتَه والشفقة عليه، وكلّ ما فرض الله لبعضنا على بعض من المحبة والإخاء ولو فعل ما عسى أن يكون من الجرائم من أجل الشهوة وغَلـَبَة الطبائع الناقصة فهو يُعاقـَب على قـَدْرِ عِصيانه وله حصّة في الآخرة وهو من خواطئ بني إسرائيل. وإذا اختلـّت للشخص اليهودي قاعدة من هذه القواعد فقد خرج من الأمّة وكفر بالأصول، ويتسمّى كافر وزنديق، وقاطع الأشجار[127]، ويلزم بـِـغْضتَه وهَلاكَهُ[128] وعنه يقول ﴿ألا أبغِض مُبغِضِـيك﴾[129]. وقد طوّلتُ الكلام جدًّا وخرجتُ عن غرض تأليفي، لكنّي فعلتُ ذلك لما رأيته منفعة في الإعتقاد، لأنّي جمعتُ لك أشياء كثيرة مفيدة مفترقة في دواوين عظيمة فكنْ بها سعيدًا. وكرِّرْ كلامي هذا مرّات وتأمّله تأمُّلا حسنًا وإن أطمعتك هِمّتك أنّك حصّلتَ أغراضَه من مرّة أو من عشر، فقد عَلِمَ الله أطمعتك بمُحال٠
[127] توسفتا حجيجاة فصل ٢، ٥٠: يعني دمّر الجيّد والجميل
[128] إنّ في الشريعة اليهوديّة هناك أنواع مختلفة من عقوبة الإعدام التي ترتبط بجرائم محدّدة مثل الرجم والحرق وقطع الرأس والخنق، ولكنّ كلّ هذه الأنواع من عقوبة الإعدام هي من العقوبات النظرية والتهديد بها لا يعدو أن يكون رادعـًا وعظة من أجل ينغرس في ضمير الشخص الوعي لخطورة المخالفة فقط. من الناحية النظرية يمكن الحكم بالإعدام في اليهودية إلا في ظروف استثـنائية للغاية٠ أوّلا، لا يُدان شخص إلا من قبل محكمة ثلاث وعشرين قاض ٍ أو أكثر. هذه المحكمة تعمل تحت سلطة السنهدرين وهو مجلس ديني من واحد وسبعين عُضوًا. الإحتياجات اللازمة لأعضاء السنهدرين صارمة للغاية ولم يكن سنهدرين لمدّة قرون عديدة. حتـّى في الزمن الذي كان السنهدرين موجودًا خلاله، كان حكم الإعدام نادرًا جدّا. فلذلك قال الحاخام العازار بن عزريا في التلمود: يعتبر سنهدرين يحكـُم على رجل بالإعدام ولو مرّة واحدة فقط في سبعين عام مدمِّرًا (قاسيًا)(مشناة، مَكّوت ۱, ۱۰) وثانيًا، يجب أن يكون على الأقلّ اثنين شهود عِيان على الجريمة. ويجب أنّ الشهود شاهدوا الجريمة كلّها كاملةً في كلّ التفاصيل. وإلى إضافة هذا يوجد عدد كبير من الإحتياجات اللازمة للشهود. لا يمكن للمرأة أن تكون شاهدة في قضية من هذا القبيل. ويجب أن يعرف الشهود التوراة والشريعة. ويجب أنـّهم ليسوا من أنسباء المجرم وليسوا بأقارب بعضهم البعض. إنّ قامر لا يكن شاهدًا ولا منتهـِك السبت ولا رجل أعمال خادع أو تاجر غير شريف ولا آثم في مجالات خطيرة أخرى٠ وثالثـًا، يجب أن شهد الشهود بعضهم البعض في وقت وقوع الجريمة. ويجب أن يُحَذِروا من المجرم لفظيًّا، في غضون ثوان ٍ قليلة قبل الجريمة، وعليهم أن يشرَحوا له أنّ هذا العمل يشكـّل انتهاكـًا ضدّ التوراة ويُعَلّموه بالضبط ما هي العقوبة إذا ارتكب هذه الخطيئة. يجب أن يكون التحذير مفهومًا بشكل واضح. إذا كان الشاهد لديه عائق في التكلّم أو عِلّة في النطق فتحذيره غير صحيح. مباشرة بعد التحذير يجب أن يُعلِن المجرم أنـّه قد فهم التحذير ويتجاهله وأنـّه سوف يرتكب الخطيئة على الرغم من ذلك مُدرِكـًا العقوبة تمامًا٠ ورابعًا، إنّ المحكمة فلتستجوب الشهود على حدة وإذا تختلف شهاداتهم حتـّى في أصغر التفاصيل (مثلا في لون عيون الخاطئ) فلا يمكن أن يدان المجرم بالإعدام٠ وخامسًا، لا يمكن أن شهد المجرم ضدّ نفسه. فلا يدان أيّ شخص بسبب قبوله أو اعترافه بالجريمة٠ وأخيرًا لا يمكن للمحكمة أن تصدر حكم الإعدام إلا مع أكثر من مجرّد الأغلبية. ومع ذلك، إذا قرّر جميع القضاة كلـّهم أنّ المتـّهم هو مُذنِب فأطلق سراحه لأنـّه إذا لا يوجد حتـّى قاض ٍ واحد يستطيع العثور على أيّ سبب لتبرئة المتـّهم فمن المحتَّم أنّ المحكمة على خطأٍ وهي غير صالحة٠ ونتيجة كلّ هذه القيود لم تكن عقوبة الموت في اليهودية منذ ألفـَيْن سنة تقريبًا. والحاخام موسى بن ميمون قال في كتاباته إنـّه من الأفضل إذا كان ألف شخص مُذنِب أطلق سراحهم من أن يتمّ تنفيذ حكم الإعدام على شخص واحد بريء٠ وعلاوة على ذلك كتب المؤلـّف الحاخام في مكان آخر، يعني في كتابه عن الفقه اليهودي "تثنية التوراة" (سفر القضاة، أحكام المتمرّدين، فصل ۳، حكم ۳): لكنّ أبناء هؤلاء المنحرفين وأحفادهم الذين ضلّلوهم أسلافهم وتولـّدوا في إلحاد وتربّوا وفقـًا للردّة، إنّهم مثل طفل أسروه الكافرون وربّوه في دينهم فهو أضطرّ [أيْ ليسوا بمسؤولين وليسوا بمستحقـّين للعقاب]. وحتّى لو سمع لاحقـًا أنّه يهودي ورأى اليهود ودينهم، إنّه ما زال كالمُضطـَرّ لأن نشّأوه في خداعهم. (...) ولذلك من المناسب أن نعيدهم من طريق التوبة ونقرّبهم بالوسائل السِلميّة إلى جوهر التوراة. فلا يجوز أن يبادر أيّ شخص إلى قتلهم٠ [129] الزبور، سورة ١۳٩، آية ٢١ فلا تعجّل فيه لأنّي لم أضعه كيف اتّـفق إلا بعد تأمّل وتثبُّت ومُطالـَعَة الآراء الصحيحة وغير الصحيحة، وتحصيل ما يلزم أنْ يعتقد منها، واستخدام بحُجَج ودلائل على كلّ معنى ومعنى، ومِن الله أسأل التوفيق نحو الصَواب٠
وأرجع إلى غرض الفصل٠٠٠
|
|